فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 72):

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}
ولما تقرر أن غير الله لا يمنع من الله بنوع، لا آلهتهم التي زعموا أنها شفعاؤهم ولا غيرها، ثبت أنهم على غاية البينة من أن كل ما سواء لا ينفع شيئاً ولا يضر، فكان في غاية التبكيت لهم قوله: {قل} أي بعد ما أقمت من الأدلة على أنه ليس لأحد مع الله أمر، منكراً عليهم موبخاً لهم {أندعوا} أي دعاء عبادة، وبين حقارة معبوداتهم فقال: {من دون الله} أي المنفرد بجميع الأمر.
ولما كان السياق لتعداد النعم {الذي خلق السماوات والأرض} [الأنعام: 73] {خلقكم من طين} [الأنعام: 2] {يطعم ولا يطعم} [الأنعام: 14] {ويرسل عليكم حفظة} [الأنعام: 61] {من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 63] {الله ينجيكم منها ومن كل كرب} [الأنعام: 64] قدم النفع في قوله: {ما لا ينفعنا ولا يضرنا} أي لا يقدر على شيء من ذلك، ليكونوا على غاية اليأس من اتباع حزب الله لهم، وهذا كالتعليل لقوله: {إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} [الأنعام: 56].
ولما ذكر عدم المنفعة في دعائهم، أشار إلى وجود الخسارة في رجائهم فقال: {ونرد} أي برجوعنا إلى الشرك، وبناه للمفعول لأن المنكر الرد نفسه من أيّ راد كان {على أعقابنا} أي فنأخذ في الوجه المخالف لقصدنا فنصير كل وقت في خسارة بالبعد عن المقصود {بعد إذ هدانا الله} أي الذي لا خير إلا وهو عنده ولا ضر إلا وهو قادر عليه، إلى التوجه نحو المقصد، ووفقنا له وأنقذنا من الشرك.
ولما صور حالهم، مثَّلَه فقال: {كالذي} أي نرد من علو القرب إلى المقصود إلى سفول البعد عنه رداً كرد الذي {استهوته} أي طلبت مزوله عن درجته {الشياطين} فأنزلته عن أفق مقصده إلى حضيض معطبه، شبه حاله بحال من سقط من عال في مهواة مظلمة فهو في حال هويه في غاية الاضطراب وتحقق التلف والعمى عن الخلاص {في الأرض} حال كونه {حيران} تائهاً ضالاً لا يهتدي لوجهه ولا يدري كيف يسلك ثم استأنف قوله: {له} أي هذا الذي هوى {أصحاب} أي عدة، ولكنه لتمكن الحيرة منه لا يقبل {يدعونه إلى الهدى} وبين دعاءهم بقوله: {ائتنا} وهو قد اعتسف المهمة تابعاً للشياطين، لا يجيبهم ولا يأتيهم لأنه قد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين العبر والنزوان.
ولما كان هذا مما يعرفونه وشاهدوه مراراً، وكانوا عالمين بأن دعاء أصحابه له في غاية النصيحة والخير، وأنه إن تبعهم نجا، وإلا هلك هلاكاً لا تدارك له، فكان جوابهم: إن دعاء أصحابه به لهدى، بين أنه مضمحل تافه جداً بحيث إنه يجوز أن يقال: ليس هدى بالنسبة إلى هذا الذي يدعوهم إليه، بقوله: {قل إن هدى الله} أي المستجمع لصفات الكمال {هو} أي خاصة {الهدى} أي لا غيره كدعاء أصحاب المستهوي، بل ذاك الهدى مع إنقاذه من الهلاك إلى جنب هذا الهدى كلا شيء، لأن الشيء هو الموصل إلى سعادة الأبد.
ولما كان التقدير: فقد أمرنا أن نلزمه ونترك كل ما عداه، عطف عليه أمراً عاماً فقال: {وأمرنا لنسلم} أي ورد علينا الأمر ممن لا أمر لغيره بكل ما يرضيه لأن نسلم بأن نوقع الإسلام وهو الانقياد التام فنتخلى عن كل هوى، وأن نقيم الصلاة بأن نوقعها بجميع حدودها الظاهرة والباطنة فنتحلى بفعلها أشرف حلى {لرب العالمين} أي لإحسانه إلى كل أحد بكل شيء خلقه؛ ثم فسر المأمور به، فكأنه قال: أن أسلموا {وأن أقيموا الصلاة} لوجهه {واتقوه} مع ذلك، أي افعلوها لا على وجه الهزء واللعب، بل على وجه التقوى والمراقبة ليدل ما ظهر منها على ما بطن من الإسلام للمحسن.
ولما كان التقدير: فهو الذي ابتدأ خلقكم من طين فإذا أنتم بشر مصورون، وجعلكم أحياء فبقدرته على مدى الأيام تنتشرون، عطف عليه قوله: {وهو الذي إليه} أي لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت {تحشرون} فأتى بالبعث الذي هم له منكرون لكثرة ما أقام من الأدلة على تمام القدرة في سياق دال على أنه مما لا مجال للخلاف فيه، وأن النظر إنما هو فيما وراء ذلك، وهو أن عملهم للباطل سوَّغ تنزيلهم منزلة من يعتقد أنه يحشر إلى غيره سبحانه ممن لا قدرة له على جزائهم، فأخبرهم أن الحشر إليه لا إلى غيره، لأنه لا كلام هناك لسواه، فلا علق بين المحشورين ولا تناصر كما في الدنيا، والجملة مع ذلك كالتعليل للأمر بالتقوى، وقد بان أن الآية من الاحتباك، فإنه حذف الصلاة أولاً لدلالة ذكرها ثانياً، والإسلام ثانياً لدلالة ذكره أولاً.

.تفسير الآيات (73- 76):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76)}
ولما كانوا بعبادة غيره تعالى- مع إقرارهم بأنه هو خالق السماوات والأرض- في حال من يعتقد أن ذلك الذي يعبدونه من دونه هو الذي خلقهما، أو شاركاً فيهما. فلا قدرة لغيره على حشر من في مملكته، قال تعالى منبهاً لهم من غفلتهم وموقظاً من رقدتهم معيداً الدليل الذي ذكره أول السورة على وجه آخر: {وهو} أي وحده {الذي خلق} أي أوجد واخترع وقدر {السماوات والأرض} أي على عظمهما وفوت ما فيهما من الحكم والمنافع الحصر {بالحق} أي بسبب إقامة الحق، وأنتم ترون أنه غير قائم في هذه الدار ولا هو قريب من القيام، فوجب على كل من يعلم أن الله حكيم خبير أن يعتقد أنه لابد من بعثة العباد بعد موتهم- كما وعد بذلك- ليظهر العدل بينهم، فيبطل كل باطل ويحق كل حق، ويظهر الحكم لجميع الخلق.
ولما قرر أن إقامة الحق هي المراد، قرر قدرته عليها بقوله: {ويوم يقول} أي للخلق ولكل شيء يريده في هذه الدار وتلك الدار {كن فيكون} أي فهو يكون لا يتخلف أصلاً.
ولما قرر أنه لا يتخلف شيء عن أمره، علله فقال: {قوله الحق} أي لا قول غيره، لأن أكثر قول غيره باطل، لأنه يقول شيئاً فلا يكون ما أراد؛ ولما كان في مقام الترهيب من سطوته، قال مكرراً لقوله: {وهو الذي إليه تحشرون} {وله} أي وحده بحسب الظاهر والباطن {الملك يوم} ولما كان المقصود تعظيم النفخة، بني للمفعول قوله: {ينفخ في الصور} لانقطاع العلائق بين الخلائق، لا كما ترون في هذه الدار من تواصل الأسباب، وقولُه-: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل ما سواه سبحانه {والشهادة} وهو ما صار بحيث يطلع عليه الخلق- مع كونه علة لما قبله من تمام القدرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه من تمام الترهيب، أي أنه لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فاحذروا جزاءه يوم تنقطع الأسباب، ويذهب التعاضد والتعاون، وهو على عادته سبحانه في أنه ما ذكر أحوال البعث إلاّ قرر فيه أصلين: القدرة على جميع الممكنات، والعلم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، لأنه لا يقدر على البعث إلا من جمع الوصفين {وهو} أي وحده {الحكيم} أي التام الحكمة، فلا يضع شيئاً في غير محله ولا على غير أحكام، فلا معقب لأمره، فلابد من البعث {الخبير} بجميع الموارد والمصادر، فلا خفاء لشيء من أفعال أحد من الخلق عليه في ظاهر ولا باطن ليهملهم عن الحساب.
ولما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية، وهم أهل فارس قوم إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام يعرف بفضله جميع الطوائف، لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه سبحانه، تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال: {وإذ} أي اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة، ما أعظمه وما أجله وأضخمه! وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله، واذكر إذ {قال إبراهيم} أي اذكر قوله، وحكمة التذكير بوقته التنبيهُ على أن هذا لم يزل ثابتاً مقرراً على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب، وانعطف هذا على ذاك أيّ انعطاف! وصار كأنه قيل: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض، فإن تنبهوا فهو حظهم، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم عليه السلام إذ قال {لأبيه} ثم بينه في قراءة الجر بقوله: {آزر} وناداه في قراءة يعقوب بالضم؛ قال البخاري في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة: تارح- انتهى.
وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة، فلعل أحدها لقب، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون، ويقال لهم أيضاً الكسدانيون- بالمهملة موضع اللام- يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنماً، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم- كما زعموا- إلى النجم، فقال عليه السلام لأبيه منكراً عليه منبهاً له على ظهور فساد ما هو مرتكبه: {أتتخذ} أي أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل {أصناماً آلهة} أي تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل، بل هو أمر بديهي أو قريب منه، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22].
ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه، عم بقية أقاربه فقال: {إني أراك وقومك} أي في اتفاقكم على هذا {في ضلال} أي بُعد عن الطريق المستقيم {مبين} أي ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافياً لمن يعبده، وإلا كان فقيراً إلى تأله من يكفيه.
ولما كان كأنه قيل: بصرنا إبراهيم عليه السلام هذا التبصير في هذا الأمر الجريء من بطلان الأصنام، قال عاطفاً عليه: {وكذلك} أي ومثل هذا التبصير العظيم الشأن، وحكى الحال الماضية بقوله: {نري} أي بالبصر والبصيرة على مر الزمان وكر الشهور والأعوام إلى ما لا آخر له بنفسه والصلحاء من أولاده {إبراهيم ملكوت} أي باكن ملك التوحيد فيعلم أن كل من عبد غير الله صنم وغيره من قومه وغيرهم في ضلال، كما علم ذلك في قومه في الأصنام {وليكون من الموقنين} أي الراسخين في وصف الإيقان في أمر التوحيد كله بالنسبة إلى جميع الجزئيات لما أريناه ببصره وبصيرته، فتأمل فيه حتى وقع فيه بعد علم اليقين على عين اليقين بل حق اليقين.
ولما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق: دانيهم وقاصيهم، وهي أشرف من الأرضية، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى؛ نصب لهم الحجاج في أمرها، فقال مسبباً عن الإراءة المذكورة: {فلما جن} أي ستر وأظلم، وقصره- وإن كان متعدياً- دلالة على شدة ظلام تلك الليلة، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه الّيل} أي وقع الستر عليه، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء {رأى كوكباً} أي قد بزغ، فكأنه قيل: فماذا فعل؟ فقيل: {قال هذا ربي} فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبراً واستفهاماً، ليوهمهم أنه مخبر، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب، فيكون أشد استجلاباً لهم إلى إنعام النظر وتنبيهاً على موضع الغلط وقبول الحجة، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله: {فلما أفل} أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان {قال لا أحب الآفلين} لأن الأفول حركة، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولاً عن اعتقاد ربوبية الكواكب، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقناً، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهاً لهم، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم، ولم يستدل بالطلوع لأنه- وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان- شرف في الجملة وسلطان، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، والممكن لابد له من موجد واجب الوجود، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة، فلابد من الأستناد إلى قديم، والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية، وخص الأفول أيضاً لأن قومه الفرس كانوا منجمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعداً من المشرق إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير، فإذا كان نازلاً إلى المغرب كان ضعيف الأثر، والإله هو من لا يتغير، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد.

.تفسير الآيات (77- 82):

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}
ولما بصرهم قصور صغير الكواكب، رقي النظر إلى أكبر منه، فسبب عن الإعراض عن الكواكب لقصوره قولَه: {فلما رأى القمر بازغاً} أي طالعاً أول طلوعه؛ قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البزغ الذي هو الشق، كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً {قال هذا ربي} دأبَه في الأولى.
ولما كان تأمل أن الكوكب محل الحوادث بالأفول قد طرق أسماعهم فخالج صدورهم، قال: {فلما أفل قال} مؤكداً غاية التأكيد {لئن لم يهدني ربي} أي الذي قدر على الإحسان إليّ بالإيجاد والتربية لكونه لا يتغير ولا شريك له بخلق الهداية في قلبي، فدل ذلك على أن الهداية ليست إلى غيره، ولا تحمل على نصب الأدلة، لأنها منصوبة قبل ذلك، ولا على معرفة الاستدلال فإنه عارف به {لأكونن} أي بعبادة غيره {من القوم الضالين} فكانت هذه أشد من الأولى وأقرب إلى التصريح بنفي الربوبية عن الكواكب وإثبات أن الرب غيرها، مع الملاطفة وإبعاد الخصم عما يوجب عناده.
ولما كان قد نفي عن الأجرام السماوية ما ربما يضل به الخصم قال: {فلما رأى} أي بعينه {الشمس بازغة} أي عند طلوع النهار وإشراق النور الذي ادعوا فيه ما ادعوا {قال} مبيناً لقصور ما هو أكبر من النور وهو ما عنه النور {هذا} مذكراً إشارتَه لوجود المسوغ، وهو تذكير الخبر إظهاراً لتعظيمها إبعاداً عن التهمة، وتنبيهاً من أول الأمر على أن المؤنث لا يصلح للربوبية {ربي} كما قال فيما مضى؛ ثم علل ذلك بياناً للوجه الذي فارق فيه ما مضى فأورث شبهة، فقال: {هذا أكبر} أي مما تقدم {فلما أفلت} أي غربت فخفي ظهورها وغلب نورها وهزمه جيش الظلام بقدرة الملك العلام {قال يا قوم} فصرح بأن الكلام لهم أجمعين، ونادى على رؤوس الأشهاد.
ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة، وتهيأت لقبول الحق، ختم الآية بقوله: {إني بريء مما تشركون} أي من هذا وغيره من باب الأولى، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور، فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر، والمراد هم، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت: {إني وجهت وجهي} أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز، فقال: {للذي فطر} أي لأجل عبودية من شق وأخرج {السماوات والأرض} فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله: {الذي خلق السماوات والأرض} وأدل دليل على ما تقدم- أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها- قولُه بعد نصب هذا الدليل: {حنيفاً} أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد، وأكد البراءة منهم بقوله: {وما أنا من المشركين} أي منكم، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به.
ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه، فقال: {وحاجه قومه} بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ولما كان من المعلوم أن محاجتهم- بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط- سفلت عن الحضيض، نزه المقام عن ذكرها، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله: {قال} أي بقول منكراً عليهم موبخاً لهم: {أتحاجوني} وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله: {في الله} أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لاسيما التوحيد {وقد} أي والحال أنه قد {هدان} أي أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه، أي لأنه قادر، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان، ويخافه من عواقب العصيان، لأن من رُجي خيره خيف ضيره، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه المحاجة، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأنا أرجوه وأخافه لأنه قادر: {ولا أخاف ما تشركون به} ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز، فأثبت لله القدرة بالهداية لأنها أشرف، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر. وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه. كل ذلك تلويحاً لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلاّ من يأمن ضره، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر، لا يرتكبها عاقل، والآية من الاحتباك.
ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه، وقصرها عليه؛ قال مستثنياً من سبب النفي، وهو أنها لا تقدر على شيء: {إلا أن يشاء ربي} المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع {شيئاً} أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها، لأنه قادر على ما يريد، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره.
ولما كان هذا في صورة التعليق، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد، فيكون موضع إطماع للخصم فيه، علله بما أزال هذا الخيال فقال: {وسع ربي كل شيء علماً} أي فأحاط بكل شيء قدرة، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة، وأثبت له كل مقتض لها، وذلك ثمرة شمول العلم- كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك: {أفلا تتذكرون} أي يقع منكم تذكر، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر، وأنها مصنوعكم، وتعجب منهم في ظنهم خوفه من معبوداتهم بقوله منكراً: {وكيف أخاف ما أشركتم} أي من دون الله من الأصنام وغيرها مع أنها لا تقدر على شيء {ولا} أي والحال أنكم أنتم لا {تخافون أنكم أشركتم بالله} أي المستجمع لصفات العظمة والقدرة على العذاب والنقمة.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء قال: {ما لم ينزل به} أي بإشراكه؛ ولما كان المقام صعباً لأنه أصل الدين، أثبت الجار والمجرور وقدمه فقال: {عليكم سلطاناً} أي حجة تكون مانعة من إنزاله الغضبَ بكم، والحاصل أنه عليه السلام أوقع الأمن في موضعه وهم أوقعوه في موضع الخوف، فعجب منهم لذلك فبان أن هذا وقول شعيب عليه السلام في الأعراف {وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا} [الأعراف: 89]- الآية، وقوله تعالى في الكهف {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله} [الكهف: 24] من مشكاة واحدة؛ ولما كان المحذور المنفي هنا إنما هو خوف الضرر من آلهتهم، وكان حصول الضرر لمخالفها بواسطة أتباعها أو غيرهم من سنن الله الجارية في عباده، اقتصر الخليل عليه السلام على صفة الربوبية المقتضية للرأفة والرحمة والكفاية والحماية، وقد وقع في قصته الأمران: إمكانهم من أسباب ضرره بإيقاد النار وإلقائهم له فيها، ورحمته بجعلها عليه برداً وسلاماً؛ ولما كان المحذور في قصة شعيب عليه السلام العود في ملتهم، زاد الإتيان بالاسم الأعظم الجامع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص المقتضي لاستحضار الجلال والعظمة والتفرد والكبر المانع من دنو ساحات الكفر- والله الموفق.
ولما بان كالشمس بما أقام من الدليل أنه أحق بالأمن منهم، قال مسبباً عما مضى تقريراً لهم: {فأيّ الفريقين} أي حزب الله وحزب ما أشركتم به، ولم يقل: فأيّنا، تعميماً للمعنى {أحق بالأمن} وألزمهم بالجواب حتماً بقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه؛ ثم وصل بذلك دلالة على أنه لا علم لهم أصلاً ليخبروا عما سئلوا عنه قولَه مستأنفاً: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الفعل {ولم} أي وصدقوا دعواهم بأنهم لم {يلبسوا إيمانهم} أي يخالطوه ويشوبوه {بظلم}.
ولما كان المعنى: أحق بالأمن، عدل عنه إلى قوله مشيراً إليهم بأداة البعد تنبيهاً على علو رتبتهم: {أولئك لهم} أي خاصة {الأمن} أي لما تقدم من وصفهم {وهم مهتدون} أي وأنتم ضالون، فأنتم هالكون لإشرافكم على المهالك وتفسيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لهذا الظلم المطلق في قوله تعالى: {بظلم} بالشرك الذي هو ظلم موصوف بالعظم في قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] تنبيه للصحابة رضوان الله عليهم على أن هذا التنوين للتعظيم، ولأنهم أهل اللسان المطبوعون فيه صفوا بذلك واطمأنوا إليه، ولا شك أن السياق كله في التنفير عن الشرك، وأنه دال على الحث على التبريء عن قليل الشرك وكثيره، فآل الأمر إلى أن المراد: ولم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، فالتنوين حينئذٍ للتحقير كما هو للتعظيم، فهو من استعمال الشيء في حقيقته ومجازه أو في معنيه المشترك فيهما لفظه معاً- والله أعلم.